أرفض الاشفاق على أطفال التوحّد… بل اشفق على نفسي أمامهم!
معلّمة تكتب عن تجربتها في التّعامل مع فتاة صغيرة تقسو على صبي صغير. لم تتوقّع ما حصل لاحقاً.
“أعمل في مركز رعاية للأطفال ومنذ أسابيع قليلة كنت وحدي أهتم بعشرة أولاد بعمر الحضانة أو أقل. هناك طفل واحد في الصّف لم يتم تشخيص حالته ولكن من المؤكّد أنّه يعاني من التوحّد (من الواضح أنّ الأهل يعيشون في حالة إنكار). الأطفال الآخرون يعاملونه بلطف شديد ويشكّلون مجموعة يدعمون ويهتمّون فيها ببعضهم البعض. ولكن ذات يوم قدمت طفلة جديدة إلى المركز من الواضح أنّها تستمتع بأذيّة الأضعف منها.
كنّا في الحديقة خارجاً حيث يلعب الأطفال، وقد بدا أنّ هذه الفتاة جعلت هدفها في الحياة ازعاج طفل التّوحّد (لنسمّه غريغ)، تلاحقه أينما ذهب وتدفعه أرضاً وتضربه. وحتّى بعد إبعادها عنه وصراخي في وجهها وجعلها تجلس خارج مكان اللّعب، كانت تنتظرني كي أبتعد قليلاً حيث لا أراها ثمّ ترجع لأذيّة غريغ حتّى ساءت حالته كثيراً وسيطر عليه القلق والاختلال العقلي وأصبح يريد أذيّة نفسه وهذا ما يحدث له عندما يشعر بالضّعف والأذى.
ذهبت إلى حيث يقف غريغ وعانقته وحاولت تهدئته. نجحت في ذلك وعاد مرّة أخرى للّعب بسعادة. حين ذهبت بعيداً لمنع صبيين من الرّكوب على الأراجيح بطريقة خاطئة، ذهبت الفتاة مرّة أخرى لغريغ كي “تقتله”. كنت على وشك أن أفقد هدوئي وأنهال على الفتاة ضرباً ولكن صّبيّاً آخر أوقفني عن ذلك. صاح هذا الصّبي (لنسمّه دايف) على الفتاة قائلاً: “اتركيه وحيداً!” وأوقعها أرضاً، مانعاً إيّاها من الوصول إلى غريغ.
وقف بعد ذلك بينما بكت الفتاة وهي ما تزال على الأرض وقال: “ليس أمراً ممتعاً أن يقوم أحد بأذيّتك، أليس كذلك؟” ثمّ ركض بعيداً وعاد إلى اللّعب. كان عليّ معاقبة دايف لهجومه على الفتاة، ولكنّي اخترت غض النّظر حتّى عندما هرعت الفتاة إليّ مسرعةً فنصحتها بالجلوس والهدوء.
لاحقاً في نفس النّهار، أخذت دايف جانباً وقلت له إنّه رفيق صالح وأعطيته “ستيكرز”. أعترف أنّني كنت معلّمة سيّئة ولكنني كنت فخورة جدّاً بدايف حين قام بحماية غريغ ولقّن الفتاة درساً لأنّ أحداً لم يقم بذلك.”
أريد الإشارة إلى أنّني حذفت الكثير من الألقاب والتّسميات الّتي نسبتها هذه المعلّمة للفتاة، مثل نعتها ب”الشّخص السّيء جدّاً” ومحاولة الفتاة “افتراس الأضعف منها” أي نعتها بالحيوان كما اتّهامها بأنّها تريد “انهاء غريغ” أي قتله، بالإضافة إلى تسميات أخرى. لديّ رسالةّ قصيرة أود توجيهها للمعلّمة مع العلم أنّها لن تراها.
لا أرى مشكلة أبداً بدايف ولا بحالته العقليّة، حتّى أنّني لا أعرف لماذا لكونه طفل توحّد أي أهميّة في القصّة التّي تحدّثت عنها، بل وجدت ردّة فعله وتصّرفاته طبيعيّة جدّاً كأي طفل ضعيف الشّخصيّة يتعرّض للأذى. فإنّى أرى السّبب الوحيد الّذي جعلك تشيرين إلى توحّده هو محاولتك كسب التّعاطف من القرّاء وجعلهم يشفقون على دايف. كما لا أرى مشكلة كبيرة بفتاة من الواضح أنّها ضحيّة والدين غير مبالين لها وغير قادرين على تربيتها.
أرى المشكلة الكبيرة بكِ، أيّها المعلّمة الفاضلة. أنت الّتي حكمت على طفلة لم تبلغ الخمس سنوات بالسّوء والوحشيّة. قمت بالتّكلّم عنها وكأنّها فتاة كبيرة تستطيع اتّخاذ قرارات ومعرفة الصّح من الخطأ بوضوح دون أن يشير أي أحد لها به. تكلّمت عنها بهجوميّة ورفض ضمني، مع العلم أنّ هذه هي مشكلة الفتاة الأساسيّة. كي تكون فتاة بعمر أربع سنوات أو أقل بهذا العنف تجاه طفل لم تر منه أي سوء فهذا يعني أنّ لديها سبب باطني لأذيّته، سبب لا تستطيع فهمه، وهو الشّعور بالرّفض أو بعدم أهميّتها. من الواضح أنّها تحاول لفت الانتباه ومن الواضح أنّها تحاول إخماد الغضب الكبير الّذي في داخلها. ألم تقفي لثانية، وتفكّري بوجع قلب، عن سبب احتواء هذه الطّفلة على هذا القدر من الغضب؟
هل فكّرت بالجلوس معها جانباً وسؤالها عن أسباب إيذاء دايف ومحاولة ارشادها إلى التّصرف الصحيح، بدل مواجهة غضبها الدّاخلي بغضبٍ أكبر؟ من خلال صراخك، أثبتّي لها أنّها غير مهمّة فهناك من هو أهم منها، ممّا أثار غضبها أكثر وجعلها تريد أن تتخلّص من أي شخص يحاول اخماد شعلتها. فهي طفلة، نعم طفلة. طفلة ورثت عن والديها الغضب وأصبحت ضحيّة كبار لا مبالين يحكمون عليها ب”المفترسة”. طفلة يستطيع أي أحد اطلاعها على الصواب وتوجيه مشاعرها وتصرّفاتها لأنّها طفلة بينما أنت بالغة من المفروض استعمال عقلك، منطقك ووعيك الكافي كي تتصرّفي. ولكن غلبت عليك غريزتك وكنت ضحيّة اشفاقك ومشاعرك. قد نغفر للفتاة كونها ضحيّة اهمال أو سوء تربية، ولكن أنت ما هو عذرك؟ بهرت بتصرّف دايف وأنت محقّة، لأنّ ما قام به هو التصّرف الوحيد الّذي يستطيع طفل في عمره التّفكير به، ولكنّه ليس حلّاً بل قد يزيد من عنف الفتاة وعدم حبّها لنفسها. ما هو هذا الحل الّذي أنقذ طفلاً ودمّر آخر؟ من المؤسف أن نرى أطفالنا بصغر منطقهم يعالجون مشاكلهم بالطّريقة الصّحيحة ونحن بكبر منطقنا وووعينا وشهاداتنا نقف مكتوفي الأيدي.
أرفض الإشفاق على غريغ، بل أرى فيه عبقريًّا أشفق على نفسي أمامه. كما أرفض تمييزه عن رفاقه، فهذا سينمّي كراهيّة في ذهنهم الباطن لأنّ الجميع يحبّون التميّز ويشعرون بغضب أناني حين يتميّز أحد عليهم خاصّة اذا لم يشعروا أنّ هذا الأخير يستحق ذلك. من المفترض أيّتها المعلّمة أن يكون لديك علم بكل ذلك، فأعتقد أن دراسة تصرّفات الأطفال وعلم النّفس هما من المواد الأساسيّة الّتي على من يريد دراسة التّعليم جامعيًّا اتّخاذها.
هؤلاء الأطفال هم المستقبل، وإن دمّرناهم فنكون قد ساهمنا بتدمير مستقبلهم ومستقبل أطفالنا. لذا، أيّها المعلّمة، كوني أهلاً لهذه المسؤوليّة الكبيرة وساهمي في إنشاء جيل صاعد أفضل من سابقه، بدل من أن نقف مكتوفي الأيدي متذمرّين من سلوك هذا الجيل وتصرّفاته، وكأنّنا لم يكن لدينا الخيار، وكأنّنا لم نربّيهم بل وجدناهم على باب عتباتنا فاسدين، وكأنّ الأطفال حقّاً كما قالت معلّمتنا في هذا المقال، يخلقون سيّئين مفترسين.
نور عبد الرضا
التعليقات مغلقة.