ما الذي يصيب الطفل عندما نستعجله على القيام بالأمور في الوقت الذي يحاول فيه الاكتشاف والاندماج مع نفسه؟
الصلة الأولى مع جسمه وتتم من خلال الحركة. والصلة الثانية مع العالم الخارجي وتتم من خلال حواسه. و حتى يصبح ماهراً في التحكم بجسمه، يحتاج الطفل إلى الحركة. ولكن عليه أن يكتشف ويختبر العالم من خلال سمع ورؤية وشم ولمس وتذوق كل ما يحيط به. الواقع أن هاتين الصلتين تسمحان للطفل بأن يعي هويته الشخصية وأن يشعر بذاته منفصلاً ومستقلاً عن بيئته وبالتالي ينمي حس فرادته كإنسان. كما أن هاتين الصلتين تسمحان له بأن يشعر بأنه جزء من الطبيعة ومن بيئته الاجتماعية.
عندما لا تجري هذه العملية على نحو كاف سيعاني الطفل من مشاكل عدة: اضطراب نقص القدرة على الانتباه والتركيز، النشاط الزائد المرضي، اكتئاب الطفولة، التوحد وغير ذلك.. ومع أننا نعرف أن الأمر في بعض الحالات عائد إلى أسباب جينية وراثية إلا أن أسلوب العيش غير الصحي الذي يعيشه أولاد هذا العصر تساهم في زيادة هذه المشاكل في الطفولة. منذ سنوات عندما زرت إحدى المدارس الخاصة في نيوإنجلند، أخبرتني مديرة هذه المدرسة أن 30 بالمئة من تلاميذ المدرسة بحاجة إلى علاج: جسدي أو نفسي.
علينا أن نسأل أنفسنا: ما الذي يصيب الطفل عندما نستعجله على القيام بالأمور في الوقت الذي يحاول فيه الاكتشاف والاندماج مع نفسه؟. وما الذي يصيبه عندما يقطع توترنا واستعجالنا عليه محاولاته لبناء علاقة مع بيئته؟
كان بيلي ابن العامين غارقاً في مراقبة المطر. كان يسمع قطراته تضرب السقف ويرى كيف تتساقط على زجاج النافذة. كان مسحوراً بروعة القطرات المتساقطة فحاول بأصابعه أن يلمسها، ولكن فجأة سمع صوت أمه منذراً: «بيلي! ما الذي تفعله؟ لقد بحثت عنك في كل مكان لأغير ملابسك؟ ستكون عمتك هنا في غضون دقائق وسنذهب للتسوق! هيا، عجّل». قاوم بيلي المرتبك أمه التي سارعت تسحبه من ذراعه: «ليس لدي وقت لسخافاتك. عليك أن ترتدي ملابسك حالاً»
يحاول الطفل التواصل مع بيئته ولكن أهله يحبطون محاولاته معتقدين أن أعمال الراشدين أهم مما يحاول الطفل تحقيقه.
عندما كانت أم بيلي تضع البقالة في صندوق السيارة الخلفي، كان بيلي مسحوراً بحافة الرصيف الناتئة البارزة فعربش إلى الرصيف وأخذ يمشي بحذر على حافة الرصيف محاولاً ألا يفقد توازنه، مقدماً رجلاً على اخرى. أغلقت الأم بسرعة غطاء صندوق السيارة ووضعته في السيارة. فاعترض الطفل قائلاً: «أنزليني». «لقد تأخرنا يا بيلي، أمامنا أشياء كثيرة نقوم بها»
المشي على حافة الرصيف الناتئة بدون أن يفقد توازنه مهمة هامة جداً بالنسبة لابن السنتين إذ تتطلب منه كل تركيزه. يكون الطفل في حركة دائمة سعياً منه إلى التحكم بكل قدرة ممكنة لجعل جسمه أداة يمكنه السيطرة عليها. في السنوات الأولى من عمره تشغل هذه الأنشطة وقت الطفل كله ويستغل كل فرصة للتغلب على التحديات التي تعترض طريقه. ولكن بدل أن نساعد الطفل على إتمام هذه العملية، عبر إتاحة الوقت والمساحة له، ترانا نستعجله.
بسبب دأبنا على إحباط محاولته في التواصل مع بيئته وذاته الباطنية يصبح الطفل عصبياً سريع الانفعال فتقل مدة تركيزه ويصبح مشتتاً، مكتئباً، منطوياً على ذاته. الواقع أن عدداً كبيراً من الأولاد يعانون من مشاكل كهذه نتيجة الحياة الضاغطة التي تؤدي إلى الشعور بالضياع في عالم مجهول، متطلب، تحت رحمة الراشدين الذين يدفعونهم دفعاً إلى هذا وذاك.
إن ثمن العجلة باهظ جداً. لماذا ندفع على علاجات وأدوية من أجل حالة يمكننا تجنبها عبر توفير الوقت والمساحة اللتين يحتاجهما الطفل حتى يكبر؟ وقت ومساحة تسمحان للطفل بأن يكون طفلاً فقط، بدون أن يكون هناك قيود منافية للعقل أو منافسات عليه أن يربحها. وقت ومساحة ليلعب ويكتشف ويستمتع.
عندما نعطي كأهل أولادنا العناية والوقت الضروريين لينموا نفسياً وجسدياً، يتمكّن هؤلاء الأولاد من تنمية قدراتهم إلى أقصى حد. وعندما يقدر الأولاد في سنوات عمرهم الأولى على التواصل أو إقامة صلات حيوية مع جوهرهم وبيئتهم، يتمكنون عندئذ من أن يصبحوا مسيطرين على أقدارهم. ويمكنهم أن يفرضوا أنفسهم ويبنوا الحياة التي يتخيلونها ويتصورونها ويستحقونها وذلك من خلال خياراتهم وقراراتهم. هل هناك هدية أفضل من هذه لتقدموها لهم؟
التعليقات مغلقة.