مشكلة العطاء
إنها مشكلة التوازن في كل شيء في الحياة! أنت تعطي وبالمقابل تتوقّع أن يُردّ جميلك يوماً ما أو على الأقل أن يقدّر الآخرون عطاءاتك. الحقيقة هي أننا ننتظر دائماً شيئاً بالمقابل، حتى ولو كان التقدير المعنوي، فهو بالنتيجة نوع من التوقعات الحسّية. فهل مطلوب منّا العطاء دائماً أم اننا بعطائنا هذا نخلق مشكلة كبرى لأنفسنا وللآخرين؟
هل تعلم أن في قرارة كل شخص تساعده أو تحسن إليه إحساساً دفيناً بالنفور منك؟ إنه أمر طبيعي. فمجرّد التلقي من أي شخص آخر يثير في الإنسان شعوراً بأنه مدين لهذا الشخص وأنه لا يستطيع أن يفي بدينه، لذلك يتهرب منه ومن النظر إليه. العطاء بهذا الشكل هو تدخّل بمصير الآخر. هذا المصير الذي يحمل له رسائل خاصة يجب أن يفهمها ويتعلّم منها. لكنك بعطائك تتدخّل في هذا المصير وتغيّره.
أحد الأشخاص الأسخياء حقاً ربح جائزة اليانصيب الكبرى فزاد ميله إلى الكرم والعطاء وراح يوزّع المال على المقرّبين منه. ولم يمض وقت طويل حتى شعر أن أولئك الذين ساعدهم بشراء بيت أو سيارة أو دفع أقساط أولادهم في الجامعة راحوا يتهرّبون منه ويتفادون لقاءه. وقد أخبرني أنه اكتشف بعد فترة ما السرّ في هذا السلوك المستغرب. لقد سهّل عليهم حياتهم بحيث وجدوا أنفسهم بلا قيمة حقيقيّة. هم لا يستطيعون القيام بهذه المشتريات أصلاً وقد تدخّل هو بحياتهم بطريقة متطفّلة وكأنه المنقذ. ومارس عليهم دون أن يدري سلطة المال. لقد محى بشيك واحد سنوات من النضال ومحاولة الحفاظ على الكرامة. لقد حرمهم من تعلّم دروس حياتهم.
الشخص الذي يعطي دون حساب يعاني ربما من عقدة إرضاء الآخرين. إنه يريد أن يعجب الآخرين وأن يحبّوه. إنه متعطّش للحب والقبول.
هذا لا يعني طبعاً أن يكون الإنسان بخيلاً أو يكفّ عن العطاء. لكن هذا العطاء يجب أن يكون مدروساً بحيث لا يغيّر مصير الناس الذين نساعدهم. الكلّ يعرف الحكمة القديمة القائلة ” بدل أن تعطي المحتاج سمكة علّمه أن يتصيّد”. بهذه الطريقة يمكن أن تكون أنت النعمة التي حلّت عليه في حياته لأنك مكّنته من التعلّم والتقدّم والتغيير. أما إذا أعطيته السمكة فسيعود ويجوع وربما أكثر من السابق لأنه اعتاد على الرزق السهل.
لعلّ هذا الكلام ينافي في المظهر مبدأ العطاء الذي عرفته البشرية خاصة مع نشوء الأديان لكن المقصود هنا هو أن يكتشف الإنسان الدافع الأساسي وراء إحساسه بالكرم المفرط.
راقبوا الدول التي تمنح الهبات! إنها تعطي المال مقابل السلطة. راقبوا الأغنياء وأصحاب النفوذ. إنهم يعطون مقابل الولاء. وربما هذا ما نفعله نحن أيضاً ولو على صعيد أضيق. كم من المساعدات أرسلت إلى الدول التي تعاني من الفقر المدقع والجوع. هل تغيّرت حال هذه الدول؟ طبعاً لا، أو على الأقل ليس بالطريقة التي كان يجب أن تتغيّر بها. لماذا لاتزال هذه الدول تعاني من المصائب نفسها منذ عشرات السنين؟ الجواب هو أن المساعدة لا تأتي بالشكل المناسب الذي يمكن أن يحدث تغييراً.
هذا لا يعني أبداً ألا يساعد الميسور الفقير بل أن يساعده بشكل لا يذلّه به ولا يحرمه من الكرامة والجهاد الذي قام به طوال حياته. راقبوا ما يحدث على شاشات التلفزيون! برامج كثيرة هدفها تقديم المساعدة للمحتاجين الذين قست عليهم الحياة. هذا شيء إيجابي. لكن هل نحن بحاجة حقاً للتباهي بهذه العروض؟ ألا يمكن أن نساعد هؤلاء من دون كل هذا التسويق والإعلان؟ هل يجب أن يتباهى أصحاب المصالح بأنهم يساهمون؟ ذلك الذي يقدّم براداً والآخر سريراً والآخر ثمن علاج؟ قليلون هم من يعملون في الخفية وبصمت. أما الآخرون فلو طلبت منهم تقديم المساعدة بعيداً عن شاشات التلفزيون لرفضوا على الأرجح. إنهم يريدون الدعاية لا أكثر.
اعملوا الخير في الخفية ومن يرى في الخفية يجازيكم! واسألوا أنفسكم حين تنتابكم نوبة كرم في المرة الثانية هل أنتم بحاجة لمساعدة؟ ولتكن مساعدتكم في محلّها وهدفها دعم الحلقة الأضعف في المجتمع على المدى الطويل وليس بمساعدة تبقيه تحت رحمة المساعدات!
المصدر:فاديا عبدوش