تقتل الأدوية التي يصفها الأطباء مئات الآلاف من البشر كل عام. هل سيرتفع هذا العدد بعد أن أصبحت التجارب السريرية تجرى ما وراء البحار، على مرضى روس، وعلى بولنديين مشردين من دون مأوى وعلى صينيين فقراء؟ هل سيرتفع العدد بعد أن أصبحت التجارب تجرى في أماكن حيث القوانين والتشريعات تكاد تكون معدومة، أماكن لا يمكن لإدارة الدواء والغذاء الأميركية FDA أن تصل إليها، وحيث يمكن “للأخطاء” أن تنتهي في قبور للفقراء المعوزين؟
مسألة عولمة قطاع صناعة الدواء وفشل الحكومة الأميركية في كبح جماح هذه الآلة القاتلة التي تدر المال أمر مقلق للغاية.
ما كان ليخطر لك أن ثمة قواسم مشتركة بين هذه المدن. تقع Iasi التي يلغ عدد سكانها 320000 نسمة في المنطقة مولدافية من رومانيا. وتقع مقرين في شمال تونس وهي تطل على البحر المتوسط ويبلغ عدد سكانها 24000 نسمة. وتعدّ Tartu في استونيا أقدم مدن دول البلطيق ويعيش فيها 100000 نسمة. أما Shenyang في شمال شرق الصين فهي مركز صناعي كبير ومحور مواصلات ويبلغ عدد سكانها 7.2 مليون نسمة.
لا تندرج هذه الأماكن ضمن الأماكن العشرة الأوائل التي قد يختارها المرء كوجهة سياحية لكن كشّافة قطاع صناعة الدواء زاروها كلها فضلاً عن عدد لا يُحصى من المدن والبلدات الكبيرة والصغيرة في أنحاء الكوكب. قصدوا هذه الأمكنة ليجدوا أشخاصاً مستعدين للخضوع لاختبارات سريرية للأدوية الجديدة، فيساعدوا بالتالي على إقناع إدارة الدواء والغذاء الأميركية بإعلان هذه الأدوية آمنة وفاعلة للأميركيين. إنها الخطوة التالية الكبرى في مجال العولمة وثمة سبب وجيه يحدونا لأن نتمنى عدم حصول ذلك.
في الماضي، كانت الأدوية التي يتناولها الأميركيون لعلاج الأمراض المزمنة والتخلّص من الالتهابات وتحسين حالتهم الذهنية وتعزيز حيويتهم الجنسية، تخضع للتجارب إما في الولايات المتحدة (في غالبية الحالات) وإما في أوروبا بشكل أساسي. لكن هذا لم يعد الحال الآن. فقد أشار المفتش العام في وزارة الخدمات الصحية والإنسانية إلى أنّ حوالى 271 اختباراً على أدوية مخصصة للاستخدام في الولايات المتحدة أجريت في دول أجنبية وذلك في العام 1990. مع حلول العام 2008، ارتفع هذا الرقم ليبلغ 6485 أيّ أن نسبة الزيادة بلغت 2000%. ووجدت قاعدة البيانات التي تجمعها المعاهد الوطنية للصحة أنّ 58788 تجربة أجريت في 173 دولة خارج الولايات المتحدة منذ العام 2000. واحتوى 80% من الطلبات المقدمة إلى إدارة الدواء والغذاء الأميركية في العام 2008 للحصول على تراخيص أدوية على بيانات من تجارب سريرية أجريت خارج البلاد. وتشهد هذه الظاهرة تزايداً إذ أن الشركات تجري 100% من اختباراتها في الخارج. وجد المفتش العام أنّ شركات الأدوية العشرين الأكبر في الولايات المتحدة تجري “1/3 من اختباراتها السريرية في مواقع خارج البلاد بشكل حصري.” يحصل هذا في حين أن عدداً متزايداً من الأدوية، حوالى 2900 دواء مختلف لحوالى 4600 حالة صحية مختلفة، يخضع لاختبارات سريرية ويتنافس لينزل إلى الأسواق.
يشكك بعض الباحثين الطبيين في ما إذا كانت نتائج الاختبارات السريرية التي تُجرى في دول أخرى تنطبق أساساً على الأميركيين. وأشاروا إلى أنّ عملية أيض الأدوية لدى سكان الدول الفقيرة في هذا العالم قد تختلف عنها لدى الأميركيين لأسباب عديدة ومتنوعة. وأضافوا أن الأمراض الشائعة في دول أخرى كالملاريا والسل يمكن أن تحرف نتيجة الاختبارات السريرية. لكن من السهل أن ندرك لما تجد شركات الأدوية نقل الاختبارات إلى ما وراء البحار أمراً مغرياً.
فإجراء التجارب في أماكن حيث السكان المحليين يكتفون ببضع دولارات في اليوم ليعيشوا أقل كلفة كما أنه من السهل تجنيد المرضى الذين غالباً ما يعتقدون أنهم يعالجون من المرض في حين أنهم يحصلون في بعض الحالات على دواء وهمي في إطار التجربة التي يتم إجراءها. ويسهل أيضاً العثور على ما يسميه القطاع مرضى “ساذجين في مجال الدواء” أيّ أنهم أشخاص لا يُعالجون من أيّ مرض ولا يتناولون حالياً أيّ دواء ولعلهم ما كانوا ليأخذوا أبداً أيّ دواء، أشخاص سيعطون بالتأكيد نتائج أفضل. (إن المشاركة في الاختبارات قد تشكّل لبعض الأشخاص أول احتكاك حقيقي مع طبيب.) كما أن القوانين والتشريعات في العديد من الدول الأجنبية أقل صرامة، هذا إذا ما وجدت أصلاً. أما إمكانية حصول أيّ نزاع قضائي فتكاد تكون معدومة، وهي معدومة تماماً في بعض الأماكن. ويبقى الشأن الأخلاقي مجرد كلام. أخيراً، تتفلّت الشركات من رقابة إدارة الدواء والغذاء الأميركية ما يعني أنّ هذه الشركات تستطيع أن تقول وأن تفعل ما تشاء.
تابع…..
المصدر: مجلة فانيتي فير دونالد بارنيت و جيمس ستيل