مرة كنت أقدم مشورة لامرأة توقفت أعمالها التجارية وكانت تتعب كثيراً وتجهد نفسها ولكن المال لم يكن يأتي. فاستعملت معها منهج “حوار الأصوات”.
تواصلت أولا ًمع الشخصية الداخلية التي تحب العمل عند السيدة، وبعد أن اكتشفت مواقف هذه الشخصية وأفكارها فيما يتعلق بما يحدث، ساعدت المرأة على الانتقال إلى الشخصية الداخلية المسؤولة عن الراحة. وكما توقعت، فإن هذه الشخصية بدأت تتدخل في العمل وتفشل الصفقات وتبعد الزبائن، فقد تعبت المرأة كثيراً لأنها لم تأخذ راحة منذ سنوات. وعلى الرغم من أنها كانت تأخذ إجازة من حين لآخر، إلا أن أفكارها كانت تبقى في العمل.
ساعدت هذه المرأة على التعرف على الشخصيات الداخلية لديها، ولكن بقي عندي إحساس بأن هناك شيء في داخلها يتدخل في عملها. فتحدثنا قليلا ًثم قررنا التعرف على عقلها المنطقي. وعندما خرج إلى السطح تبين أنه هو الذي ينظم حياتها بشكل كامل. كان هادفاً ومليئاً بالإصرار مع لهجة آمرة في صوته، وكان يحسب سلفاً كل ما يمكن أن يمنحه أي لقاء وما هي النتائج التي يمكن أن يقود إليها وماذا سينتج عن ذلك. فهو يجمعها بالناس من أجل مصلحتها ويفرقها عنهم إذا رأى أن العلاقة معهم لن تقود إلى نتائج إيجابية، وهو يصمم كل لحظة من حياتها، كما أنه يصمم كذلك حسها الفكاهي ومقدار فرحها في الحياة.
سألت عقلها المنطقي (طبعاً في الواقع سألتها هي):
– إذا كنت تخطط في حياتها كل شيء حتى الطريق الذي تسلكه إلى العمل، ومتى تخرج إلى العمل ومتى تعود، وماذا سيحدث فيما بعد، فكيف تستطيع الاستمرار في الوجود إذا لم يبق في حياتها أي مصادفة؟ فقد تريد أن تسير في طريق جديد، ولنفترض أنها يمكن أن تلتقي فيه برجل يمكنه أن يدخل تغييرات إيجابية في حياتها.
– لن أسمح لها بالسير في طريق جديد. سآخذها في الطريق الاعتيادي. أما إذا حدث وسارت في طريق جديد وصادفت رجلا ًفإنني سأحسب فوراً من وماذا يمثل، وأقرر على هذا الأساس إن كانت ستتحدث معه أم لا.
– إنك تبقى بعيداً عن الرجال الذين يعجبونك لأنك تخاف منهم؟
أجاب:” نعم”.
– وبالطريقة نفسها تتصرف في أي مجال من مجالات حياتك. تخيل أنك سكنت شقة جديدة وقد تطلبت منك ستة أشهر أو ستة سنوات لتجهيزها ووضع كل شيء في مكانه. وإذا لم يبق لديك ما تفعله فسوف تبدأ بالموت، لأن ما يغذيك، أي يغذي شعلة الحياة فيك، هو عملك لحساب المستقبل وتنظيمه، فإذا لم يعد هناك مصادفة لم يعد هناك عمل، ولا يبقى أمامك إلا الموت.
بعد تفكير طويل وحسابات طويلة قال:
– حسناً أنا أوافق على إدخال المصادفات إلى حياتها.
وقبل أن أفترق عن العقل المنطقي طلبت منه الإذن في التحدث إلى نقيضه، فحصلت على الموافقة وافترقنا أصدقاء. وعندما خرجت إلى سطح الوعي شخصية المرأة نفسها لم تستطع أن تخفي استغرابها لما سمعته، فهي كانت تعرف طبعاً أنها تخطط لحياتها ولكنها لم تكن تتصور لأي مدى.
وبعد أن ارتحنا قليلا ًانتقلنا إلى العقل اللا منطقي. وتبين أنها امرأة حكيمة ومسترخية وبسيطة في كلماتها وأفعالها، كما أنها مرحة جداً. قال:
– نعم، أنا أسيطر على أي وضع دون أن أحلله. إنني أرى الوضع رؤية متكاملة في المكان والزمان، فكل شيء موجود هنا في نقطة واحدة، وأنا موجود في المركز. لهذا عندما أتخذ القرارات حول ماهية الإجراءات التالية التي سأتخذها، تكون خططي دائماً ناجحة. فأمور من قبيل هل أنهض باكراً أم لا، هل أذهب إلى الموعد أم لا، هل أغير الطريق أم لا، واضحة هنا. وأنا لا أفهم ما الداعي أصلا ً لوجود العقل المستقيم إذا كان بمقدوري رؤية كل شيء واتخاذ الإجراءات المثلى.
ماذا يمكننا أن نعترض هنا؟ وهل هناك ضرورة أصلا ًللاعتراض؟ فتابعت الحديث:
-صحيح أنك ترى الوضع رؤية متكاملة. ولكن كل وضع يتوزع على لحظات كثيرة، بينما بالنسبة لك لا وجود للزمن منفرداً ولا للمكان منفرداً، فكل شيء في نقطة واحدة. أليس كذلك؟.
أجاب العقل اللامنطقي:”نعم إنه كذلك”.
– أنت ترى النتيجة مباشرة بينما العقل المنطقي يضطر إلى تجسيد أفعالك في الحياة والانتظار حتى يرى النتيجة مباشرة. أنت لا وجود للزمن بالنسبة لك وأنت تتصرف خارج الزمن، أما هو فيعيش في الزمن ويضطر لتوزيع أفعالك كلها في الزمن. فالزمن بالنسبة لك لا شيء، فأنت تخرج للحظات وترى النتيجة مباشرة لأنك تعيش حيث لا يوجد زمن في الأبدية، بينما الزمن بالنسبة له كل شيء فهو يعيش في الزمن ولهذا لا يرى النتيجة أبداً، ومهما عاش ومهما فعل، لن يرى النتيجة النهائية أبداً لأي فعل من أفعاله. لهذا يتحول الزمن بالنسبة له إلى لحظة تافهة، إلى لا شيء. إننا نلتفت للوراء، إلى السنين التي عشناها، ونرى اللحظة، لا شيء.
فقال العقل اللامنطقي:”لكنني بهذه الطريقة أشعر بالارتياح، إذ يكفيني الخروج إلى سطح الوعي من وقت لآخر واتخاذ القرارات وتعجبني حياة كهذه”.
أعتقد أن هذا المثال كافٍ تماماً لفهم طبيعة العقل المنطقي والعقل اللامنطقي.