painting by van gogh
الجزء الأول
ذات مرة قام شخص بزراعة أفضل بذوره بعد أن حرث أرضه وهيأها جيداً، وقد نفّذ الأعمال المطلوبة كلها بعناية وإخلاص. إلا إن القسم الأعظم من المحصول تلف لأسباب غير مفهومة، وقد ساعده ما جمعه من بقايا المحصول على تجاوز الشتاء، ولولا ما احتاط به من قمح سابقاً لهلكت أسرته.
في العام التالي اهتم بعناية وتفانٍ أكبر، كما ساعده الطقس ونما الزرع بشكل رائع. وعندما لم يبق للحصاد إلا أسابيع قليلة، تلبدت السماء بالغيوم ثم تساقط البرد بشدة على حقله وأتى على محصوله كله. ومرة أخرى لم يكف ما بقي من محصوله إلا لتجاوز الشتاء فقط.
وهكذا في العام التالي، اقترض الحبوب للبذار. يجب أن يكون لديه محصول وفير وإلا فإن أسرته مهددة بالهلاك. بقي لموعد البذار أسبوع، وعليه أن يستنفر قواه كلها وأن يأخذ لمساعدته ولديه وأن يباشر بالتحكم بالمستقبل عبر الحاضر. في الصباح التالي، نهض الرجل من السرير وفجأة اخترق جسمه ألم حاد وفهم أنه قد أصيب بالمرض ولن يتمكن من مساعدة أسرته. ولكن هذا ليس كل شيء فقد مرض ولداه أيضاً.
تمدد الرجل على السرير ونظر إلى السقف. لقد حكم على مصيره بالدمار وكل محاولاته لم تثمر. في البداية حالفه حظ سيء ثم توالت المصائب. وها هي تصيبه الآن في الداخل وليس في الخارج فقط. وفجأة توصل وعي الرجل إلى حل اللغز، فأمراضه ومصائبه هي محصول أيضاً. يمكن التحكم بالمستقبل، بتغيير العالم المحيط، بانتقاء أفضل البذور، بتهيئة التربة، باختيار أفضل قطعة أرض. ولكننا نكتشف أن كل هذا ليس العامل الرئيسي، فالأكثر أهمية بالنسبة للمستقبل هو حالتنا من الداخل، والبذور الأكثر أهمية موجودة في النفس. فكما تكون حالة النفس يكون مصيرنا. فإذا كانت النفس لدى الشخص مشوهة، فإنه سوف ينفق محصوله على الشرب والملذات. وحتى لو ادّخر وفعل كما يفعل الآخرون، فزرع واعتنى بحقله، فإن المحصول سوف يتلف على كل حال.
بقي الرجل مريضاً مستلقياً على فراشه يوماً بعد آخر. أقلع بالتدريج عن التفكير بالأمور المادية ولقمة العيش، وبدأ حل اللغز يتضح بالتدريج، ذلك اللغز الذي ينص على ارتباط مصيرنا بروحنا. ولاحظ أن نظرته إلى العالم حوله أصبحت مختلفة. وسواء ساعده في ذلك القراءة أو الكتب الدينية أو التأمل، فقد اتضح الأمر للرجل المريض العاجز بجلاء. كان على الدوام يصف جاره بأسوأ الألفاظ ويندد به. كان على الدوام غير راضٍ عن نفسه وعن قدره، إذ كان يظن أن المحصول ليس كافياً. كان يعادي الناس ذوي السلوك الخاطئ، وبدلاً من أن يصارحهم بذلك بمحبة ويمنعهم من السلوك الخاطئ، كان يحقد عليهم ويندد بهم.
بدأ يكتشف أن قوانين العلاقات الروحية المتبادلة ليست أقل أهمية من العلاقات المادية، وأن المادي والروحي وثيقا الصلة أحدهما بالآخر. المادي يمكنه أن يؤثر في الروحي ويشكله، أما الروحي فيؤثر في المادي ويستطيع أن يتحكم به، إلا أن الروحي أكثر أهمية بما لا يقاس، بينما المادي هو متمم للروحي وأداة لتطوره فحسب.