ذهبت مساء أمس إلى مطعم مجاور لتناول العشاء. كان يجلس رجل لطيف جداً انتقل حديثاً إلى بلدتنا إلى الطاولة المجاورة مع ابنته البالغة
من العمر خمس سنوات وابنه ذي السنوات الثماني. بدا الطفلان مسرورين لوجودهما في المكان، وكانا يرتشفان بسعادة بعض أنواع المشروبات
الطبيعية بواسطة القشّات بينما ينتظران وصول عشائهما. بدت الفتاة الصغيرة سعيدة جداً لجلوسها إلى جانب والدها،
وتطوق دورياً عنقه بذراعيها وتعطيه تلك القبلة التي لا يعطيها سوى طفل هائم لوالديه. كان يبتسم لها بحنان، يقول شيئاً مضحكاً يبهجها،
ثم يعود إلى هاتفه النّقال.
إن لم يحترس الآباء، ستؤدي الهواتف النقالة إلى أضرار طويلة الأمد. كنت أرى مراراً وتكراراً، حتى بضع سنوات خلت،
آباء وأطفالهم في مواقف حيث تتاح لهم فرص لا تقدّر بثمن من أجل إجراء محادثة تبدو أساسية للتطور الفكري أفضل بشكل عام،
ولقدرة الطفل المستقبليّة على القراءة بشكل خاص. إنما الآن، أرى بعضاً من عدم التبادل، فبينما يراقب الأطفال المكان أو يلعبون،
يكون الأباء ملتصقين ببعض أجهزة الاتصال.
أرى أماً تجر طفلها الرضيع في عربة، أو أباً ينتظر في الصف في البقالة مع طفله، أو أماً تجلس في غرفة الانتظار لدى طبيب الأسنان
مع طفلها ذي السنوات الخمس. منذ وقت غير بعيد، كنت ترى آباء في هذه المواقف يتحدثون إلى أطفالهم. يطرح الصبي الصغير
أو الفتاة الصغيرة الأسئلة، فيجيب الآباء، ويعلقون معاً على ما حصل في تلك اللحظة (يناقشون صورة الأرنب على علبة الحبوب،
رائحة الزفت الجديد على الطريق، الماء المتجمد المتدلي من السطح، أو آثار الوحل الذي خلفته الأقدام على سجادة غرفة الجلوس).
كنا نسمع محادثات عن الأشياء والناس والأحداث. كنا نسمع أطفالاً يطرحون الأسئلة ويتلقون تفسيرات عن أمور تتجاوز قدرتهم على الفهم.
لم تكن هذه المحادثات جدّية جداً. ولكن هذه الحوارات بأسلوبها اليومي الخفيف تساعد على تتطوّر مفردات الطفل وإتقان أشكال لغوية متنوعة
والمهارة في المحادثة. تساعدهم على فهم العالم حولهم وتعلمهم كيف يجسدون ذلك العالم من خلال نظام نظري عبر الكلمات.
على الرغم من أنه مفيد جداً لنمو الطفل الفكري، أظهر باحثون أن ليس الآباء كلهم يقومون بهذا النوع من الحديث،
ما يسميانه “الحديث غير العملي”. وبتعبير آخر، الحديث لا يهدف فقط إلى توبيخ أو إرشاد نشاط الأطفال العملي.
حتى عهد قريب، كانت الطبقة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية تبدوان خطاً فاصلاً. هذا النوع من الحديث الذي وصفته في الأعلى،
والذي يبدو أنه يجري بشكل متكرر وطبيعي في عائلات الطبقة المتوسطة، مفقود في العائلات الفقيرة.
ويبدو أنه أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل من الأطفال الفقراء عرضةً للفشل المدرسي، بينما يتمتع أطفال الطبقة الوسطى بالأفضلية
عندما يتعلق الأمر بتعلم القراءة (المهارة الفكرية الجوهرية للمدرسة).
حاول المدرسون والباحثون واختصاصيو الصحة طويلاً معرفة السبب الذي يكمن وراء هذه الاختلافات الدائمة في بيئة الطفل اللغوية
في العائلات الفقيرة، وما الذي يمكن فعله لمعالجة هذا الوضع.
والمثير للسخرية، عندما أرى عائلات الطبقة المتوسطة هذه كلها التي تشتري طعاماً صحياً لأطفالها، وتهتم بمدى التحفيز الذي تقدمه صفوفهم، وتصر على الأنظمة الغذائية الصحية، تركّز طوال الوقت على هواتفها النقالة، أذهب للتفكير أنه بدلاً من إغلاق الفجوة من خلال رفع بيئة الأطفال الفقراء اللغوية، سنغلق الفجوة من خلال تجريد أطفال الطبقة المتوسطة من التواصل اللغوي الذي كان مفيداً جداً لتطورهم. وذلك بسبب ما أراه الآن طوال الوقت؛ آباء لطفاء وحسنو النية، مأخوذين كلياً بأجهزتهم – اختفت اللحظات كلها على مدار اليوم التي كانت توفّر فرصاً لأحاديث قيّمة. الآن، عندما يكون الأطفال بصحبة آبائهم، يكون الآباء بصحبة هواتفهم النقالة.
هذه هي النقطة التي أحاول الوصول إليها: يجدر بالآباء المهتمين بنجاح أطفالهم في المدرسة وبسعادتهم أن يقللوا من تذمرهم بشأن كمية السكر في الحبوب، أو ما إذا كانت المدرسة توفر تحدياً كافياً لطفلهم الذكي جداً، ويحرصوا في المقابل، بينما هم يحاولون توجيه الحياة اليومية، على أن تكون هواتفهم مغلقة وبعيدة ومتاحين للأحاديث العفوية التي تعتبر أفضل برنامج للاستعداد للمدرسة.