صفحة جديدة في كتاب الحياة
رأس السنة هو الإحتفال الذي يرافقه الكثير من الأفكار والعواطف والأمنيات. منهم من يكتئبون فيه ومنهم من يحتفلون وبين الاثنين حالات نفسيّة عديدة.
ما نفعله في هذه الليلة صورة لما سنفعله طوال السنة! هذا ما يردّده كثيرون في العالم. لذلك ربما يحتفلون بصخب ويفرحون بشكل مفرط علّ فرح هذه الليلة المفصلّية يمتد على مئات الأيام التالية!
كثيرون يتذكّرون في هذه الليلة إنجازاتهم خلال السنة المنصرمة ويذكرون الأوقات الأقل نجاحاً ويحدّدون أهدافاً للسنة المقبلة التي يأملون أن تحمل لهم سعادة أكبر وصحة أفضل وبحبوحة أكثر.
الغريب أن أمنيات الناس حول العالم تتشابه رغم اختلاف الشعوب والحضارات والأديان والظروف الاجتماعية والسياسية والمالية! ألا يشير ذلك إلى أنّ لدى كل البشر قاعدة إنسانيّة واحدة؟ ألا يدلّ ذلك إلى أننا كلّنا، على تنوّعنا نتوق للأمور نفسها: الصحة والعيش بسلام وطمأنينة وكرامة على كافة المستويات؟ ألا يطمح كل واحد فينا، وكلّ من موقعه، إلى النمو الروحي والفكري في السنة المقبلة؟
من جهة أخرى، البعض يعتبر رأس السنة يوماً عادياً كسائر الأيام ولا شيء مميّز فيه. لكن ماذا لو جعلنا من هذا اليوم محطّة لمراجعة أمور أساسية في حياتنا؟ ماذا لو أعدنا انظر في أهدافنا؟ ماذا لو أجرينا نقداً ذاتياً لتصحيح مسارنا؟
كل هدف نحدّده للسنة المقبلة يعني أننا نعترف بمسؤوليتنا عمّا يجري في حياتنا ولا نلقي اللوم على أحد. لسنا ضحية أشخاص ولا أقدار ولا ظروف. أمانينا وأهدافنا تعني أننا لا نعتمد على حظّ ولا على نجوم ولا أبراج ولا على توقّعات، بل على طاقتنا الإيجابية الفاعلة التي يباركها الله بنعمه الكثيرة.
كلّنا يسعى إلى تحقيق سعادته والكل يعرف في قرارة ذاته ومع مرور السنوات أن هذه السعادة لا علاقة لها بأمور مادية. إنها تنبع من تحقيق القيم الراسخة فينا. قيم الإيمان والعمل والسعي والشجاعة والشفافيّة والصدق، والعطاء والمحبّة والرحمة. نحن مبرمجون لتحقيق هذه القيم، وما الحزن والخيبة واليأس الذي نشعر به إلا نتيجة تقاعسنا أو تأجيلنا لتحقيق هذه القيم، ووضعها في الدرجة الثانية بعد الحاجات المادية.
نحن نعيش في عالم هشّ يعكس طبيعتنا البشريّة. لعلّنا نشعر أحياناً أننا لا نتحكّم إلا بأمور بسيطة جداً وأن العالم يحرّكنا بالاتجاه الذي يريده. هل يمكننا أن نتجاهل مخاوفنا؟ طبعاً لا! لكن ما نتعلّمه على عتبة السنة الجديدة هو أن الجواب الأفضل لعدم الاستقرار وانعدام الأمان في حياتنا هو أن نكون أشخاص محبّين ومنفتحين على كل ما تأتينا به الحياة من تجارب. الانفتاح بهذا المعنى ليس استسلاماً بل تسليماً بالنعمة التي أعطيت لنا لعيش تجربتنا الإنسانيّة الخاصة حيث نحن، والتعلّم منها.
يقول الدكتور سيرغيه لازاريف:” كل شيء في نهاية المطاف يعمل من أجل القرب من الله: شبابنا وجمالنا وطاقتنا ومشاعرنا ورغباتنا وأحلامنا وإرادتنا ووعينا. الهرم والفقدان التدريجي للقدرات والجمال والطاقة وامتلاك الثروات المادية وفقدانها والسرور والغم ،كل ذلك يعمل من أجل أن يقربنا أكثر من الله. تطير النحلة من الخلية وتقطع عشرات الكيلومترات في البحث عن الأزهار،التي تحصل منها على الرحيق وغبار الطلع. يتحول كل ذلك لاحقاً إلى عسل.
تذبل الأزهار والأعشاب تموت، ويبقى العسل. يحدث الأمر ذاته في حياتنا أيضاْ. مهما كانت الحياة التي عاشها الإنسان، سعيدة أم تعيسة، فهو يدخر الشيء الأهم الذي من أجله وهبت لنا هذه الحياة. كل ما هو شكل خارجي يفنى ، بينما يبقى الجوهر وكل شكل بدوره عندما يولد يتطور ويذوي يفنى مخلفاً فقط حصيلة الحب الإلهي التي ستذهب النفس بها إلى الدور التالي من التطور”.
لنتذكّر أن الانفعالات الإيجابية لا تمنح السعادة بل هي تخدير مؤقت للغرائز والأفكار. إن خيرنا الحقيقي يكمن في ضبط شهواتنا المادّية وتهذيبها ضمن حدود الاعتدال فحتى الدواء الشافي يمكن أن يتحوّل إلى سمّ إذا زاد عن جرعته المحسوبة.
في هذه الليلة لتكن نوايانا مباركة، سلاميّة، مليئة بالحب والأهداف البنّاءة. ولنبقي مصابحنا مضاءة لكي نقرأ في كتاب الحياة صفحة جديدة علّها تكون درباً مؤدّية إلى المزيد من تهذيب النفس والتراحم والمودّة والسعي إلى الحقيقة الأسمى في حياتنا.
المصدر: فاديا عبدوش